أعادت الندوة الوطنية الأولى للمفكر الراحل مالك بن نبي المنظمة مؤخرا بالعاصمة، الجدل بخصوص هذا المفكر الذي ظل فكره لزمن طويل منفيا عن بلده، رغم أنه حدد بدقة مشاكل الأمة وسبل رقيها، إلا إن أفكاره “السابقة لوقتها” صنعت له أعداء “إديولوجيين” من الجانبين، كانت نتيجتها في النهاية تغييب “المفكر” لعقود طويلة، تفاءل البعض بنهايتها رسميا عقب أول ندوة رسمية تنظمها الدولة الجزائرية له، مع أمل أن يتم استغلال أفكاره والشروع في تدريسها ليستفيد الجيل الجديد من “كنز فكري غيب طويلا”.
عرف باهتمامه بإشكاليات الحضارة والهوية الإسلامية
يعتبر مالك بن نبي، أحد أهم المفكرين الذين عرفهم العالم العربي في القرن العشرين عرف باهتمامه بإشكاليات الحضارة والهوية الإسلامية، ولد سنة 1905 في مدينة قسنطينة بالجزائر، وانتقل بعد إكمال دراسته الثانوية إلى باريس حيث تخرّج عام 1935 مهندسا كهربائيا، واتجه منذ نشأته نحو تحليل الأحداث التي كانت تحيط به، ووضع جميع كتبه تحت عنوان مشكلات الحضارة، حتى انتقل إلى الجزائر عام 1963، حيث عين مديرا عاما للتعليم العالي.
ورغم حضوره إلى الجزائر وقيامه بعدة محاضرات في فجر الاستقلال، إلا أن ذلك الزخم لم يستمر طويلا، قبل أن يعود إلى التغييب “الممنهج”، ما جعل بن نبي يحمل لقب “المجهول في وطنه”، وهو الأمر الذي أكده الوزير الأول عبد العزيز جراد، خلال الندوة التي نظمتها وزارة الثقافة حول المفكر، حيث صرح بأنه اكتشف مالك بن نبي وفكره خلال دراسته في فرنسا، حيث كان فكره وكتبه محل رفض من السلطات الرسمية حتى العشرية الأخيرة.
صارحهم بقابليتهم للإستعمار، ومنحهم شروط النهضة
ولم يعرف أحد سبب التهميش الذي حصل للمفكر، إلا أن الإديولوجيا كان لها دور كبير في ذلك، فاليساريون والعلمانيون اعتبروا بن نبي إسلاميا فهاجموه، كما أن الإسلاميين اعتبروه أحيانا ملحدا وعلمانيا فهاجموه، فضلا عن النخب العربية الحاكمة التي اعتبرته مناهضا لها، راح بن نبي ضحية هذا الصراع ليعيش مهمشا، وهو من صارحهم بقابليتهم للإستعمار، ومنحهم شروط النهضة إن أرادوا، إلا أن إنكار ابن نبي وفكره في الجزائر لم يكن يحدث في دول أخرى وهو الذي يعتبر أشهر المفكرين العرب المسلمين في عصره، بل أن هناك من يشدد على أنه المفكر الوحيد الذي عرفته الأمة العربية، حيث كان فكره معروفا من طنجة إلى جاكرتا وكوالالامبور، التي لا يخجل قائد نهضتها مهاتير محمد من تأثير بن نبي في فكره.
ورغم أن كتابات المفكرين والكتاب والمثقفين لم تجف منذ نصف قرن، إلا أنها لم تعرف ذلك الدعم الحقيقي من قبل الدولة، بما يمكن من استغلال الكنز الفكري الذي تركه المفكر الراحل في بناء الجزائر، خصوصا وأنه طرح أهم مشاكل أفول الحضارة الإسلامية وطرق استعادتها، وبناءها من جديد، حيث تعد الندوة الأخيرة التي نظمتها وزارة الثقافة أكبر تظاهرة رسمية تنظم لهذا المفكر، في ظل الحضور الرسمي الكبير الذي شهدته.
التظاهرة نقطة بداية للعودة إلى مفكر الجزائر واستغلال تركته الضخمة
وعبر الكثيرين من الكتاب والمثقفين عن أملهم في أن تكون التظاهرة، نقطة بداية للعودة إلى مفكر الجزائر، واستغلال تركته الضخمة، على المستوى الرسمي، الذي يتمثل بوضعه في إطاره المنطقي وهو المدرسة الجزائرية والجامعة، وهو الأمر الذي اعترفوا بأنه لن يكون سهلا في ظل التجاذبات الإديولوجية التي تعرفها هذه الأخيرة، حيث أكد هؤلاء بأنه وبعد مرور عشرات السنوات من استقلال بلداننا لا زلنا نعاني من كثير من المشاكل التي تصل بعضها لتضرب الهوية والموروث الحضاري للشعوب، بالإضافة إلى النزاعات القومية للطوائف في تهديد واضح لتركيبة النسيج الاجتماعي.
وضع حلولا لمشاكل الحضارة الإنسانية بالمفهوم الشمولي
المفكر مالك وضع حلولا لمشاكل الحضارة الإنسانية بالمفهوم الشمولي، وهذه الحلول كانت لها ركائز، ومنها القراءة السنية للتاريخ ومع أن دورة الدول تكون بالبداءة من الصفر ثم الارتقاء شيئا فشيئا حتى تصل إلى القمة ثم تعود إلى الانهيار، وهذه سنة كونية، إلا أن الكثيرين كانوا على خلاف مع بن نبي في ذلك، حيث أكدوا بأن الشعوب العربية لم تصل بعد إلى القمة ولا إلى ما يقرُب منها، مشددين على أن مالك بن نبي عمل جاهدا ليضع القواعد والدعائم الضرورية للوصول إلى القمة، بالتدريج وإن كانت أفكاره تحتاج وقتا طويلا للتجسيد، إلا أنها مفيدة للغاية وفيها ما فيها من الخير العظيم للأمة والمجتمع الإنساني ككل.
الإصلاح هو تغيير نفسية الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له
وبالعودة إلى فكر المرحوم، فإن مفهوم الإصلاح مثلا بالنسبة لمالك بن نبي هو تغيير نفسية الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له، وإعادة إحياءها من جديد حتى تتفاعل مع معطيات الحضارة، كما أنّ الحضارة بالنسبة له عبارة عن معادلة رياضية إنسان زائد تراب زائد وقت، ولن توجد الحضارة حتى تمزج تلك العناصر مع بعضها، وهذا المركب الذي يمزجها هو الفكرة الدينية.
الحضارة هي من تولّد منتجاتها وليس المنتجات هي التي تولد الحضارة
يرى ابن نبي أن الدين أمر أساسي في نشوء الحضارة وصمودها، فالدين مؤثّر صالح للشعوب في كل زمان ومكان، وبيّن أنّ الحضارة هي من تولّد منتجاتها وليس المنتجات هي التي تولد الحضارة، وهذا في رده على الداعين لتطبيق الأفكار الغربية للوصول للحضارة بدون غربلتها وتطويعها لتلائم طبيعة الإنسان الشرقي ومعتقده وتكوينه النفسي والاجتماعي، كما ينبغي للحضارة حسبه أن تحدد من وجهة نظر وظيفية فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه.
الاستعمار ليس بالضرورة هو مصدر التخلف في البلدان المستعمرة
يرى مفكر الجزائر أن الثقافة راجعة إلى السلوك، وهي أعم من المعرفة، فالقيم الاجتماعية والخلقية، هي المحيط التي يشكل الفرد فيها طباعه وشخصيته، وتحدّث عن مفهوم الاستعمار وخالف الجميع في ذلك وتبنّى مصطلحا جديدا وهو “القابلية للاستعمار”، ويؤكد أن الاستعمار ليس بالضرورة هو مصدر التخلف في البلدان المستعمرة، وأعطى مثالا لدولة اليمن التي لم تتعرض للاستعمار مطلقا في تاريخها ومع هذا فهي من أكثر الدول تخلفا وفقرا.
لم تخضع أفكاره للدراسة والبحث إلا بعد عقود من طرحها
هذه الأفكار وأخرى جعلت البعض يعتبر مالك بن نبي “سابق عصره”، و”المجهول في قومه”، فالرجل راجت كتبه بعد وفاته، وعمل أعمالا جبّارة لم ير نتيجتها، ولم تخضع أفكاره للدراسة والبحث إلا بعد عقود من طرحها، وهو الذي قال لزوجته حينما كان على فراش الموت أنه سيعود بعد خمسة وعشرين عاماً، تلميحا منه أنه سيتم الاعتناء بكتبه وأفكاره بعد سنين من موته، فمالك كان ضحية فكره التقدمي، وعالج قضية الحضارة بشكل لم يسبقه إليه أحد سواء من علماء الغرب أو المسلمين.
محمد سليمان