قد لا يكون من المبالغة التسليم بالدور المحوري للاعلام في صنع السياسات الاقتصادية و التأثير في سلوكات فواعل الاقتصاد و تحديد انماط التفكير و التفاعل في هذا المجال.
و لعل سطوة الفكر الرأسمالي لم تكن ممكنة لولا تحرك الآلة الاعلامية التي روجت لهذا النموذج المتفرد الذي يحرر الفرد من كل القيود !!!
فصناعة الاعلام لمجد الاقتصاد تكاد تكون مسلمة بغض النظر عن قوة الطرح الإقتصادي أو ضعفه؛ فالرأسمالية التي روج لها نظاما مثاليا لعقود أثبتت هشاشتها بسبب عملية تحايل بسيطة لا تتعدى قيمتها آلاف الدولارات.
فبسبب هذه الحادثة شهد العالم احد اعنف الأزمات الاقتصادية التي كادت تعصف به عام 2008 ؛ فيما عرف بأزمة العقار.
فالإعلام يوجه الجماهير بشكل كبير في مختلف دقائق الاقتصاد” الاستهلاك او المقاطعة”؛” الشراء او البيع”؛” الاستثمار او الادخار” و نتيجة هذا التوجيه قد تتحدد خيارات خاطئة بقصد أو دون قصد.
و بالتالي تظهر الحاجة الملحة لجعل الاعلام أداة فعالة للنهوض بالاقتصاد و الرفع من آداءه في عالم يتسم بتنامي الحاجة للاعتماد المتبادل و التزايد المذهل في عدد المؤسسات و الفواعل الاقتصادية بمختلف اشكالها و احجامها و نطاق نشاطها الجغرافي.
فالإشكال يتلخص في ماهية الآليات التي تسمح بجعل الاعلام اداة لبناء اقتصاد قوي و توجيه الفرد نحو البدائل الاقتصادية الملائمة؟.
الإجابة هنا تستدعي التطرق لعدد من الجزئيات؛ أولها يتعلق بطبيعة الاعلام في حد ذاته و هنا نستحضر مجموعة من الامثلة.
فالإعلام الرسمي الكوري الشمالي مثلا و الذي يعتبر مصدر المعلومة الوحيد في البلاد؛ يلعب دوره في الاشادة المبالغ فيها بالسياسات الحكومية و من بينها السياسات الاقتصادية لدرجة لا يمكن من خلالها التشكيك في إقتصاد “بيونغ يونغ”.
فالكوريون الشماليون المقيمون ببلادهم لا يمكنهم تصور قصور سياسات حكومتهم على الرغم من مختلف المشاكل الاقتصادية التي يعانون منها؛ بل لا يؤمنون بوجود بديل اقتصادي اكثر نجاعة من الموجود.
نفس الامر نجده من خلال اعلام ادولف هتلر سابقا بألمانيا؛ فمن خلال اعتماده البروباغندا الواسعة جعل شعبه متيقنا من أن النهضة الاقتصادية مرتبطة بالتوسع في إطار ما يسمى المجال الحيوي.
و دون الابتعاد عن نفس السياق نجد مثالا نعيشه يوميا يتعلق بالمحتوى الاعلامي الذي تطرحه القنوات المملوكة لرجال الأعمال، فهو لا يتعدى في الغالب كونه إشهارا لما يطلبه صاحب القناة و ترويجا لما يرغب بتحققه إقتصاديا.
فالإعلام هنا أداة لتثبيت مفاهيم او معتقدات اقتصادية لجهة أو جهات معينة على الرغم من كل الاختلالات و العيوب القائمة.
و بغض النظر عما سبق التطرق اليه؛ و بالرغم من تحقق الاستقلالية لبعض الجهات الاعلامية إلا أنها تتسبب -دون أي خلفية- بزرع مفاهيم مغلوطة و تثبيت قناعات اقتصادية غير صائبة؛ و ذلك بسبب عدم التخصص.
فالإعلامي صانع المحتوى لابد أن يكون متشبعا بكل جوانب الاقتصاد و تفاصيله و ألا يدلو بدلوه دون تمكن و مسؤولية أو عليه بلعب دوره وسيطا بين الجمهور و المتخصصين في مجالات الاقتصاد تاركا المجال لهم لتدارس المواضيع التي يطرحها بكل موضوعية .
فالأمر هنا يستدعي أن يكون الاعلام متخصصا و غير متحيز و ان يلعب دوره الحقيقي لا أن يكون أداة لتمرير أفكار جهة أو جهات معينة دون إدراك.
الجزئية الثانية تتعلق بالمسؤولية الاخلاقية الاعلامية في مجال الاقتصاد؛ فالإعلام لابد أن يكون تعامله مع المواضيع الاقتصادية احترافيا في مختلف الابعاد؛ فتقع على عاتقه الاحاطة التامة بالشأن الاقتصادي و ما يرتبط به من روابط بشرية و اجتماعية و بيئية و تقنية….
فعلى سبيل المثال من الممكن أن يتم التطرق لأحد المشروعات الاقتصادية و دراسة جدواها الاقتصادية و ما تحققه من نفع و فوائد دون التطرق في جانب ما لانعكاسات هذا المشروع السلبية في الجانب البيئي.
هنا يتحتم انطلاقا من المسؤولية الاخلاقية الاعلامية التنويه بهذا و عدم العمل على تجاوزه او عدم التطرق اليه، فالاعلام لابد أن يكون دوره بارزا كأحد أركان الإقتصاد المستدام.
كما تنجر على هذه المسؤولية ضرورة التنبيه لكل الاخطار و التجاوزات و لعب الدور المرافق لمختلف الفواعل و المؤسسات المتدخلة في الشأن الإقتصادي أو بالأخص المواضيع التي يسلط عليها الضوء.
اما الجزئية الثالثة فتتعلق بالشراكة مع دور الأبحاث و مراكز الدراسات المتخصصة و العمل على تثمين الابحاث في مختلف المواضيع الاقتصادية بل و المشاركة في البحث عن بدائل جديدة و العمل وفقا لمنطق الحاكمية لعب هذا الدور؛ فالإعلام لابد و أن يلعب دوره كاملا في هذا المجال مع العمل على تعزيز مشاركة الفرد في وضع التصورات الاقتصادية على إعتبار كونه أساسا لها.
كما لابد للإعلام أن يعمل على لعب دوره في صناعة السياسات الاقتصادية انطلاقا من مشاركته في دعم و ترقية الأبحاث المتعلقة بالشؤون الاقتصادية.
الجزئية الرابعة تتعلق بضرورة الانخراط في المرافقة الاقتصادية للمؤسسات الناشئة و المشاريع المصغرة؛ فدون ادنى شك تلعب هذه المؤسسات دورا رائدا في النهوض باقتصاديات الدول و تقليص نسب البطالة؛ و تكون هذه المرافقة بتقديم التوضيحات اللازمة في المجالات القانونية و التشريعية و فتح المجال امام المتخصصين و الاستشاريين لتقديم التوجيهات اللازمة لأصحاب المشاريع قصد تجسيد أفكارهم و إنجاح استثماراتهم؛ مع العمل على تسليط الضوء على المشاريع الناجحة و جعل صناع القرار على دراية تامة بالعراقيل التي تواجهها هذه المشاريع و هو ما يسهم دون شك في حلحلة الكثير من المشاكل و تقريب وجهات النظر و بالتالي يلعب الاعلام دوره الايجابي في هذا الشأن.
الجزئية الخامسة و الأخيرة تتعلق بدور الاعلام في التحفيز و الدافعية؛ و هذه مسؤولية مجتمعية ملقاة على عاتق المؤسسات الاعلامية و كثيرا ما نجد مبادرات إعلامية ساهمت في استنباط أفكار و مشاريع إقتصادية عبقرية؛ و فتحت المجال امام مخترعين و اصحاب مشاريع و مقاولين لابراز نبوغهم في مجالاتهم ؛و كثير منهم أضحى اليوم مساهما قويا في اقتصاد بلده بل و يتعدى حدوده.
فالإمكانات التي تمتلكها المؤسسات الاعلامية قد تفتقر لها الحكومات أحيانا و بالتالي عليها استغلالها بما يسهم في ما يسهم مساهمة فعالة في تنشيط الحياة الاقتصادية .
في الأخير ؛ نجد ان علاقة الاعلام بالاقتصاد أو بالأحرى دوره في الإقتصاد تتلخص في كونه أداة تأثير متعددة الابعاد؛ و لابد من العمل على جعلها أحد ركائز الاقتصاد المستدام الذي يراعي مختلف المتغيرات التي تلبي حاجيات الانسان غذائيا؛ تعليميا؛ أمنيا؛ صحيا؛ تقنيا ؛ بيئيا…
كما لابد ألا يتسم الاعلام بالتعامل بسطحية في المواضيع الاقتصادية و ان يلعب دوره انطلاقا من التخصص و الموضوعية و المسؤولية فضلا عن ضرورة أن يكون نسقا متميزا فيما يتعلق بضرورة المرافقة و الدعم و العمل على رفع المستوى الإقتصادي و تنشيط الحياة الاقتصادية.
فإعلام الشأن الإقتصادي لابد و أن يبرز و يتخذ مكانته الطبيعية كأحد حلقات سلسلة الاقتصاد.
أ.جدلة محمد مصدق باحث دكتوراه في الإقتصاد السياسي الدولي بجامعة الجزائر 3